فصل: فَصْــل: في ‏الخلافة والسلطان‏‏ وكيفية كونه ظل الله في الأرض

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وَقَال شيخ الإسلام ـ قدسَ اللّه روُحه‏:‏

اعلم أن اللّه تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وأكمل لأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعله علي شريعة من الأمر، وأمره أن يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون، وجعل كتابه مهيمناً علي ما بين يديه من الكتب، ومصدقا لها، وجعل له شرعة ومنهاجا، وشرع لأمته سنن الهدي، ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد‏.‏ كتاب يهدي به، وحديد ينصره، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏، فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقـوم الحقوق في العقود المالية والقبوض‏.‏ والحديد به تقوم الحدود علي الكافرين والمنافقين‏.‏

ولهذا كان في الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد، والميزان للوزراء والكتاب وأهل الديوان، والحديد للأمراء والأجناد‏.‏ والكتاب له الصلاة، والحديد له الجهاد؛ ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في عيادة المريض‏:‏ ‏(‏اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة، وينكأ لك عدواً‏)‏، وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوة سَنَامه الجهاد في سبيل الله ‏)‏‏.‏

/ولهذا جمع بينهما في مواضع من القرآن؛ كقوله تعالي‏:‏‏{‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏15‏]‏، والصلاة أول أعمال الإسلام،وأصل أعمال الإيمان؛ ولهذا سماها إيمانا في قوله‏:‏ ‏{‏ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏143‏]‏ أي‏:‏ صلاتكم إلي بيت المقدس‏.‏ هكذا نقل عن السلف، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏19‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏54‏]‏ فوصفهم بالمحبة التي هي حقيقة الصلاة، كما قال‏:‏ ‏{‏ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏، فوصفهم بالشدة علي الكفار والضلال‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل‏:‏ أي العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏‏(‏إيمان بالله، وجهاد في سبيله‏)‏، فقيل‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم حج مبرور‏)‏، مع قوله في الحديث الصحيح ـ لما سأله ابن مسعود‏:‏ أي العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الصلاة في وقتها‏)‏، قال ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بر الوالدين‏)‏ قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجهاد في سبيل الله‏)‏‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏[‏إيمان بالله‏]‏ دخل فيه الصلاة، ولم يذكر في الأول بر الوالدين، إذ ليس لكل أحد والدان، فالأول مطلق والثاني مقيد بمن له والدان‏.‏

/ولهذا كانت سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وسائر خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من ولاة الأمور ـ في الدولة الأموية والعباسية ـ أن الإمام يكون إماما في هذين الأصلين جميعا؛ الصلاة، والجهاد‏.‏ فالذي يؤمهم في الصلاة يؤمهم في الجهاد،وأمر الجهاد والصلاة واحد في المقام والسفر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استعمل رجلا علي بلد؛ مثل عتاب بن أسيد علي مكة، وعثمان بن أبي العاص علي الطائف، وغيرهما، كان هو الذي يصلى بهم، ويقيم الحدود، وكذلك إذا استعمل رجلا علي مثل غزوة؛ كاستعماله زيد بن حارثة، وابنه أسامة، وعمرو بن العاص، وغيرهم، كان أمير الحرب هو الذي يصلي بالناس؛ ولهذا استدل المسلمون بتقديمه أبا بكر في الصلاة علي أنه قدمه في الإمامة العامة‏.‏

وكذلك كان أمراء ‏[‏الصديق‏]‏ ـ كيزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص وغيرهم ـ أمير الحرب هو إمام الصلاة‏.‏

وكان نواب ‏[‏عمر بن الخطاب‏]‏ كاستعماله علي الكوفة عمار بن ياسر علي الحرب والصلاة، وابن مسعود علي القضاء وبيت المال، وعثمان بن حنيف علي الخراج‏.‏

ومن هنا أخذ الناس ولاية الحرب، وولاية الخراج، وولاية القضاء، فإن عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين، فلما انتشر المؤمنون، وغلبوا الكافرين علي البلاد، وفتحوها، واحتاجوا إلي زيادة في الترتيب، وضع / لهم ‏[‏الديوان‏]‏، ديوان الخراج للمال المستخرج، وديوان العطاء والنفقات للمال المصروف، ومَصَّر لهم الأمصار، فمصر الكوفة والبصرة، ومصر الفسطاط؛ فإنه لم يؤثر أن يكون بينه وبين جند المسلمين نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل؛ فجعل هذه الأمصار مما يليه‏.‏

 

فصـل

وكانت ‏[‏مواضع الأئمة، ومجامع الأمة‏]‏ هي المساجد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك علي التقوي، ففيه الصلاة، والقراءة والذكر، وتعليم العلم، والخطب، وفيه السياسة، وعقد الألوية والرايات، وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء‏.‏ وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم‏.‏

وكذلك عماله في مثل مكة، والطائف، وبلاد اليمن، وغير ذلك من الأمصار والقري، وكذلك عماله علي البوادي، فإن لهم مجمعا فيه يصلون، وفيه يساسون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن بني إسرائيل كان تسوسهم الأنبياء، كلما ذهب نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون‏)‏ قالوا‏:‏ فما تأمرنا ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أوفوا ببيعة الأول فالأول، واسألوا الله لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم‏)‏‏.‏

/وكان ‏[‏الخلفاء والأمراء‏]‏ يسكنون في بيوتهم، كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع‏.‏ وكان سعد بن أبي وقاص قد بني له بالكوفة قصراً، وقال‏:‏ أقطع عني الناس، فأرسل إليه عمرُ بن الخطاب محمدَ بن مسلمة، وأمره أن يحرقه، فاشتري من نبطي حزمة حطب، وشرط عليه حملها إلي قصره، فحرقه، فإن عمر كره للوالي الاحتجاب عن رعيته، ولكن بنيت قصور الأمراء‏.‏ فلما كانت إمارة معاوية احتجب لما خاف أن يغتال كما اغتيل علي، واتخذ المقاصير في المساجد ليصلي فيها ذو السلطان وحاشيته، واتخذ المراكب، فاستن به الخلفاء الملوك بذلك، فصاروا مع كونهم يتولون الحرب والصلاة بالناس، ويباشرون الجمعة والجماعة والجهاد وإقامة الحدود، لهم قصور يسكنون فيها ويغشاهم رؤوس الناس فيها، كما كانت ‏[‏الخضراء‏]‏ لبني أمية قبلي المسجد الجامع، والمساجد يجتمع فيها للعبادات، والعلم، ونحو ذلك‏.‏

 فصـل

طال الأمد، وتفرقت الأمة، وتمسك كل قوم بشعبة من الدين بزيادات زادوها، فأعرضوا عن شعبة منه أخري‏.‏ أحدثث الملوك والأمراء‏[‏القلاع،والحصون‏]‏، وإنما كانت تبني الحصون والمعاقل قديما في الثغور، خشية أن / يدهمها العدو؛ وليس عندهم من يدفعه عنها، وكانوا يسمون الثغور الشامية ‏[‏العواصم‏]‏ وهي قنسرين، وحلب‏.‏ وأحدثت ‏[‏المدارس‏]‏ لأهـل العلـم، وأحدثت ‏[‏الربط، والخوانق‏]‏ لأهل التعبد‏.‏ وأظن مبدأ انتشار ذلك فـي ‏[‏دولـة السلاجقة‏]‏‏.‏ فأول ما بنيت المدارس والرباطات للمساكين ووقفت عليهـا وقوف تجري علي أهلها في وزارة ‏[‏نظام الملك‏]‏‏.‏ وأما قبل ذلك فقد وجد ذكر المدارس، وذكر الربط، لكن مـا أظن كان موقوفا عليهــا لأهلهــا؛ وإنمــا كانت مساكن مختصة، وقد ذكر الإمام معمر بن زياد من أصحاب الواحـدي في ‏[‏أخبار الصوفية‏]‏‏:‏ أن أول دويرة بنيت لهم في البصرة‏.‏ وأما ‏[‏المدارس‏]‏ فقد رأيت لها ذكراً قبل دولة السلاجقة في أثناء المائـة الرابعــة، ودولتهم إنمـا كانت في المائــة الخامسة، وكذلك هذه ‏[‏القلاع، والحصون‏]‏ التي بالشام عامتها محدث، كما بني الملك العادل قلعة دمشق وبصري وحران، وذلك أن النصاري كانوا كثيري الغزو إليهم، وكان الناس بعد المائة الثالثة قد ضعفوا عن دفاع النصاري عن السواحل، حتي استعلوا علي كثير من ثغور الشام الساحلية‏.‏

/ فَصْــل

في ‏[‏الخلافة والسلطان‏]‏ وكيفية كونه ظل الله في الأرض، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، وقال الله تعالي‏:‏ ‏{‏ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏26‏]‏‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، يعم آدم وبنيـه، لكن الاسم متناول لآدم عينًا؛ كقوله‏:‏ ‏{‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏14‏,‏15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏7، 8‏]‏، ‏{‏ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 13‏]‏، إلي أمثال ذلك‏.‏

ولهذا كان بين ‏[‏داود، وآدم‏]‏ من المناسبة ما أحب به داود حين أراه ذريته، وسأل عن عمره‏؟‏ فقيل‏:‏ أربعون سنة‏.‏ فوهبه من عمره الذي هو ألف سنة ستين سنة‏.‏ والحديث صحيح رواه الترمذي وغيره وصححه؛ ولهذا كلاهما ابتلي بما ابتلاه به من الخطيئة، كما أن كلاً منهما /مناسبة للأخري؛ إذ جنس الشهوتين واحد، ورفع درجته بالتوبة العظيمة التي نال بها من محبة الله له وفرحه به ما نال، ويذكر عن كل منهما من البكاء والندم والحزن ما يناسب بعضه بعضًا‏.‏

و ‏[‏الخليفة‏]‏ هو من كان خلفًا عن غيره‏.‏ فعيلة بمعني فاعلة‏.‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏أو كلما خرجنا في الغزو خلف أحدهم وله نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن اللبنة من اللبن، لئن أظفرني الله بأحد منهم لأجعلنه نكالاً‏)‏، وفي القرآن‏:‏ ‏{‏ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏‏.‏

والمراد بالخليفة‏:‏ أنه خلف من كان قبله من الخلق‏.‏ والخلف فيه مناسبة، كما كان أبو بكرالصديق، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خلفه علي أمته بعد موته، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف علي المدينة من يكون خليفة له مدة معينة، فيستخلف تارة ابن أم مكتوم، وتارة غيره، واستخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك‏.‏وتسمي الأمكنة التي يستخلف فيها الإمام ‏[‏مخاليف‏]‏؛ مثل مخاليف اليمن، ومخاليف أرض الحجاز، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏حيث خرج من مخلاف إلي مخلاف‏)‏، ومنه قوله تعالي‏:‏ ‏{‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏165‏]‏، وقوله تعالي‏:‏ ‏{‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ‏}‏ ـ إلي قوله تعالي‏:‏ ‏{‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13، 14‏]‏، ومنه قوله تعالي‏:‏ ‏{‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ ‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وقد ظن بعض القائلين الغالطين ـ كابن عربي ـ أن ‏[‏الخليفة‏]‏ هو الخليفة عن الله، مثل نائب الله، وزعموا أن هذا بمعني أن يكون الإنسان مستخلفاً، وربما فسروا ‏[‏تعليم آدم الأسماء كلها‏]‏ التي جمع معانيها الإنسان‏.‏ ويفسرون ‏[‏خلق آدم علي صورته‏]‏ بهذا المعني أيضًا، وقد أخذوا من الفلاسفة قولهم‏:‏ الإنسان هو العالم الصغير، وهذا قريب‏.‏ وضموا إليه أن الله هو العالم الكبير؛ بناء علي أصلهم الكفري في وحدة الوجود، وأن الله هو عين وجود المخلوقات، فالإنسان من بين المظاهر هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات، ويتفرع علي هذا ما يصيرون إليه من دعوي الربوبية والألوهية المخرجة لهم إلي الفرعونية والقرمطية والباطنية‏.‏

وربما جعلوا ‏[‏الرسالة‏]‏ مرتبة من المراتب، وأنهم أعظم منها فيقرون بالربوبية، والوحدانية والألوهية، وبالرسالة، ويصيرون في الفرعونية، هذا إيمانهم‏.‏ أو يخرجون في أعمالهم أن يصيروا ‏[‏سدي‏]‏ لا أمر عليهم ولا نهي، ولا إيجاب ولا تحريم‏.‏

/والله لا يجوز له خليفة؛ ولهذا لما قالوا لأبي بكر‏:‏ يا خليفة الله‏!‏ قال‏:‏ لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبي ذلك‏.‏ بل هو ـ سبحانه ـ يكون خليفة لغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا‏)‏؛ وذلك لأن الله حي، شهيد، مهيمن، قيوم، رقيب، حفيظ، غني عن العالمين، ليس له شريك، ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه‏.‏ والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف إلي الاستخلاف‏.‏

وسمي ‏[‏خليفة‏]‏ لأنه خلف عن الغزو،وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالي، وهو منزه عنها؛فإنه حي قيوم شهيد،لا يموت ولا يغيب، وهو غني يرزق ولا يرزق، يرزق عباده، وينصرهم، ويهديهم، ويعافيهم، بما خلقه من الأسباب التي هي من خلقه،والتي هي مفتقرة إليه كافتقار المسببات إلي أسبابها‏.‏ فالله هو الغني الحميد، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ‏{‏ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏29‏]‏، ‏{‏ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏84‏]‏، ولا يجوز أن يكون أحد خلفًا منه،ولا يقوم مقامه؛ لأنه لا سمي له، ولا كفء له‏.‏ فمن جعل له خليفة فهو مشرك به‏.‏

وأما الحديث النبوي‏:‏ ‏(‏السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل ضعيف وملهوف‏)‏، وهذا صحيح، فإن الظل مفتقر إلي آوٍ، وهو رفيق له / مطابق له نوعًا من المطابقة، والآوي إلي الظل المكتنف بالمظل، صاحب الظل، فالسلطان عبد الله، مخلوق مفتقر إليه، لا يستغني عنه طرفة عين، وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد والصمدية التي بها قوام الخلق، ما يشبه أن يكون ظل الله في الأرض، وهو أقوي الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده، فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس، وإذا فسد فسدت بحسب فساده؛ ولا تفسد من كل وجه، بل لابد من مصالح، إذ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملاً مانعًا من جميع الأذي وتارة لا يمنع إلي بعض الأذي، وأما إذا عدم الظل فسد الأمر، كعدم سر الربوبية التي بها قيام الأمة الإنسانية‏.‏ والله تعالي أعلم‏.‏

/وقَال ـ رحمه الله تعالى‏:‏

 فَصْـــل

حكي أصحابنا ـ كالقاضي أبي يعلي وغيره ـ عن الإمام أحمد في خلافة أبي بكر، هل ثبتت باختيار المسلمين له‏؟‏ أو بالنص الخفي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أو البين‏؟‏

أحدهما‏:‏ بالاختيار، وهو قول جمهور العلماء، والفقهاء، وأهل الحديث، والمتكلمين؛ كالمعتزلة، والأشعرية، وغيرهم‏.‏

والثانية‏:‏ بالنص الخفي، وهو قول طوائف أهل الحديث، والمتكلمين، ويروي عن الحسن البصري‏.‏ وبعض أهل هذا القول يقولون بالنص الجلي‏.‏

وأما قول ‏[‏الإمامية‏]‏‏:‏أنها ثبتت بالنص الجلي علي علي، وقول ‏[‏الزيدية الجارودية‏]‏‏:‏ أنها بالنص الخفي عليه، وقول ‏[‏الراوندية‏]‏‏:‏ أنها بالنص علي العباس ـ فهذه أقوال ظاهرة الفساد عند أهل العلم والدين، وإنما يدين بها إما جاهل، وإما ظالم‏.‏ وكثير ممن يدين بها زنديق‏.‏

/والتحقيق في خلافة أبي بكر ـ وهو الذي يدل عليه كلام أحمد‏:‏ أنها انعقدت باختيار الصحابة ومبايعتهم له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوعها علي سبيل الحمد لها والرضي بها، وأنه أمر بطاعته وتفويض الأمر إليه، وأنه دل الأمة وأرشدهم إلي بيعته‏.‏ فهذه الأوجه الثلاثة‏:‏ الخبر، والأمر، والإرشاد، ثابت من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فالأول‏:‏ كقوله‏:‏ ‏(‏رأيت كأني علي قليب أنزع منها، فأتي ابن أبي قحافـة، فنزع ذنوبًا أو ذنوبين‏)‏ الحديث، وكقوله‏:‏ ‏(‏كأن ميزانًا دلي من السماء إلي الأرض، فوزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن عمر‏)‏ الحديث، وكقوله‏:‏ ‏(‏ادعـي لي أبــاك، وأخــاك حتي أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏.‏ فهذا إخبار منه بأن الله والمؤمنون لا يعقدونها إلا لأبي بكر الذي هم بالنص عليه‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏(‏أري الليلة رجل صالح كأن أبا بكر نيط برسول الله‏)‏ الحديث، وقوله‏:‏ ‏(‏خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكًا‏)‏‏.‏

وأما الأمر‏:‏ فكقوله‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‏)‏، وقوله للمرأة التي سألته إن لم أجدك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فأتي أبا بكر‏)‏، وقوله لأصحاب الصدقات‏:‏ ‏(‏إذا لم تجدوه أعطوها لأبي بكر‏)‏ ونحو ذلك‏.‏

/والثالث‏:‏ تقديمه له في الصلاة، وقوله‏:‏ ‏(‏سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر‏)‏ وغير ذلك، من خصائصه ومزاياه‏.‏

وهذه الوجوه الثلاثة الثابتة بالسنة دل عليها القرآن‏:‏

فالأول‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم ‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏144‏]‏

والثاني قوله‏:‏ ‏{‏ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ‏}‏ الآية‏.‏‏.‏‏.‏ ‏[‏الفتح‏:‏16‏]‏

والثالث‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏17‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

فثبتت صحة خلافته، ووجوب طاعته بالكتاب، والسنة، والإجماع‏.‏ وإن كانت إنما انعقدت بالإجماع، والاختيار، كما أن الله إذا أمر بتولية شخص أو إنكاحه، أو غير ذلك من الأمور معه، فإن ذلك الأمر لا يحصل إلا بعقد الولاية، والنكاح‏.‏ والنصوص قد دلت علي أمر الله بذلك العقد، ومحبته له، فالنصوص دلت علي أنهم مأمورون باختياره، والعقد له، وأن الله يرضي ذلك ويحبه‏.‏ وأما حصول المأمور به، المحبوب، فلا يحصل إلا بالامتثال‏.‏ فلما امتثلوا ما أمروا به عقدوا له باختيارهم، وكان هذا أفضل في حقهم، وأعظم في درجتهم‏.‏

/وقَال ـ رحمه الله تعالى‏:‏

 فَصْـــل

أهل الأهواء في ‏[‏قتال علي ومن حاربه‏]‏ علي أقوال‏:‏

أما ‏[‏الخوارج‏]‏ فتكفر الطائفتان المقتتلان جميعًا‏.‏

وأما ‏[‏الرافضة‏]‏ فتكفر من قاتل عليا، مع المتواتر عنه من أنه حكم فيهم بحكم المسلمين، ومنع من تكفيرهم‏.‏

ولهم في قتال طلحة والزبير، وعائشة ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ تفسيق إحدي الطائفتين؛ لا بعينها، وهو قول عمرو بن عبيد وأصحابه‏.‏

والثاني‏:‏ تفسيق من قاتله إلا من تاب، ويقولون‏:‏ إن طلحة، والزبير، وعائشة تابوا، وهذا مقتضي ما حكي عن جمهورهم، كأبي الهذيل، وأصحابه، وأبي الحسين وغيرهم‏.‏

وذهب بعض الناس إلي تخطئته في قتال طلحة، والزبير، دون قتال أهل الشام‏.‏

ففي الجملة، أهل البدع من الخوارج، والروافض والمعتزلة، ونحوهم، يجعلون القتال موجبًا لكفر، أو لفسق‏.‏

/وأما ‏[‏أهل السنة‏]‏ فمتفقون علي عدالة القوم، ثم لهم في التصويب، والتخطئة مذاهب لأصحابنا وغيرهم‏.‏

أحدها‏:‏ أن المصيب علي فقط‏.‏

والثاني‏:‏ الجميع مصيبون‏.‏

والثالث‏:‏ المصيب واحد، لا بعينه‏.‏

والرابع‏:‏ الإمساك عما شجر بينهم مطلقًا، مع العلم بأن عليا وأصحابه هم أولي الطائفتين بالحق، كما في حديث أبي سعيد لما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تمرق مارقة علي حين فرقة من المسلمين، فيقتلهم أولي الطائفتين بالحق‏)‏ وهذا في حرب أهل الشام، والأحاديث تدل علي أن حرب الجمل فتنة، وأن ترك القتال فيها أولي، فعلي هذا نصوص أحمد وأكثر أهل السنة، وذلك الشجار بالألسنة، والأيدي أصل لما جري بين الأمة بعد ذلك، في الدين والدنيا‏.‏ فليعتبر العاقل بذلك، وهو مذهب أهل السنة والجماعة‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن طائفتين من الفلاحين اقتتلتا، فكسرت إحداهما الأخري؛ وانهزمت المكسورة، وقتل منهم بعد الهزيمة جماعة‏:‏ فهل يحكم للمقتولين من المهزومين بالنار، ويكونون داخلين في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القاتل والمقتول في النار‏)‏ أم لا‏؟‏ وهل يكون حكم المنهزم حكم من يقتل منهم في المعركة‏؟‏ أم لا‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، إن كان المنهزم قد انهزم بنية التوبة عن المقاتلة المحرمة لم يحكم له بالنار؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات‏.‏

وأما إن كان انهزامه عجزًا فقط، ولو قدر علي خصمه لقتله، فهو في النار؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏)‏ قيل‏:‏ يارسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏إنه أراد قتل صاحبه‏)‏، فإذا كان المقتول في النار لأنه أراد قتل صاحبه، فالمنهزم بطريق الأولي؛ لأنهما اشتركا في الإرادة والفعل، والمقتول أصابه من الضرر ما لم يصب المهزوم؛ ثم إذا لم تكن هذه المصيبة مكفرة لإثم المقاتلة، فلأن لا تكون مصيبة الهزيمة مكفرة أولي، بل إثم المنهزم المصر علي المقاتلة أعظم من إثم المقتول في المعركة، واستحقاقه للنار أشد؛ لأن ذلك انقطع عمله السيئ بموته، وهذا مصر علي الخبث العظيم؛ ولهذا قالت طائفة من الفقهاء‏:‏ إن منهزم البغاة يقتل إذا كان له طائفة يأوي إليها فيخاف عوده، بخلاف المثخن بالجرح منهم فإنه لا يقتل‏.‏ وسببه أن هذا انكف شره، والمنهزم لم ينكف شره‏.‏

وأيضًا فالمقتول قد يقال‏:‏ إنه بمصيبة القتل قد يخفف عنه العذاب، وإن كان من أهل النار، ومصيبة الهزيمة دون مصيبة القتل‏.‏ فظهر أن المهزوم أسوأ حالاً من المقتول إذا كان مصرًا علي قتل أخيه، ومن تاب فإن الله غفور رحيم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن ‏[‏البغاة، والخوارج‏]‏‏:‏ هل هي ألفاظ مترادفة بمعني واحد‏؟‏ أم بينهما فرق‏؟‏ وهل فرقت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما، أم لا‏؟‏ وإذا ادعي مدع أن الأئمة اجتمعت علي ألا فرق بينهم، إلا في الاسم، وخالفه مخالف مستدلاً بأن أمير المؤمنين عليا ـ رضي الله عنه ـ فرق بين أهل الشام وأهل النهروان‏:‏ فهل الحق مع المدعي‏؟‏ أو مع مخالفه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما قول القائل‏:‏ إن الأئمة اجتمعت علي أن لا فرق بينهما إلا في الاسم، فدعوي باطلة، ومدعيها مجازف، فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم؛ مثل كثير من المصنفين في ‏[‏قتال أهل البغي‏]‏، فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وقتال علي الخوارجَ، وقتاله لأهل الجمل وصفين إلي غير ذلك من قتال المنتسبين إلي الإسلام من باب ‏[‏قتال أهل البغي‏]‏‏.‏

/ثم مع ذلك فهم متفقون علي أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة، لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق، بل مجتهدون؛ إما مصيبون، وإما مخطئون، وذنوبهم مغفورة لهم‏.‏ ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقًا‏.‏

فإذا جعل هؤلاء وأولئك سواء، لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين علي العدالة ‏[‏سواء‏]‏؛ ولهذا قال طائفة بفسق البغاة، ولكن أهل السنة متفقون علي عدالة الصحابة‏.‏

وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين ‏[‏الخوارج المارقين‏]‏ وبين ‏[‏أهل الجمل وصفين‏]‏ وغير أهل الجمل وصفين‏.‏ ممن يعد من البغاة المتأولين‏.‏ وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم؛ من أصحاب مالك، وأحمد، والشافعي، وغيرهم‏.‏

وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تمرق مارقة علي حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولي الطائفتين بالحق‏)‏ وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة، ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من/جنس أولئك؛فإن طائفة علي أولي بالحق من طائفة معاوية‏.‏ وقال في حق الخوارج المارقين‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم علي لسان نبيهم لنكلوا عن العمل‏)‏‏.‏ وقد روي مسلم أحاديثهم في الصحيح من عشرة أوجه وروي هذا البخاري من غير وجه، ورواه أهل السنن والمسانيد؛ وهي مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، متلقاة بالقبول، أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم، واتفق الصحابة علي قتال هؤلاء الخوارج‏.‏

وأما ‏[‏أهل الجمل، وصفين‏]‏ فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب، وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب، واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القتال في الفتنة، وبينوا أن هذا قتال فتنة‏.‏

وكان علي ـ رضي الله عنه ـ مسرورًا لقتال الخوارج، ويروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بقتالهم، وأما قتال ‏[‏صفين‏]‏ فذكر أنه ليس معه فيه نص؛ وإنما هو رأي رآه، وكان أحيانًا يحمد من لم ير القتال‏.‏

/وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن‏:‏ ‏(‏إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏، فقد مدح الحسن وأثني عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين؛ أصحاب علي وأصحاب معاوية، وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن، وأنه لم يكن القتال واجبًا ولا مستحبًا‏.‏

و ‏[‏قتال الخوارج‏]‏ قد ثبت عنه أنه أمر به، وحض عليه، فكيف يسوي بين ما أمر به وحض عليه، وبين ما مدح تاركه وأثني عليه‏؟‏‏!‏‏.‏ فمن سوي بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين، وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين، والحرورية المعتدين، كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين‏.‏ ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين، كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين، فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم علي قولين مشهورين، مع اتفاقهم علي الثناء علي الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين، والإمساك عما شجر بينهم‏.‏ فكيف نسبة هذا بهذا‏؟‏‏!‏

وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال ‏[‏الخوارج‏]‏ قبل أن يقاتلوا، وأما ‏[‏أهل البغي‏]‏ فإن الله تعالي قال فيهم‏:‏ ‏{‏ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء‏.‏ فالاقتتال ابتداء ليس مأمورًا به، ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم، ثم إن بغت الواحدة قوتلت؛ ولهذا قال من قال من الفقهاء‏:‏ إن البغاة لا يبتدؤون بقتالهم حتي يقاتلوا‏.‏ وأما الخوارج فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم‏:‏ ‏(‏أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏)‏‏.‏

وكذلك مانعو الزكاة؛ فإن الصديق والصحابة ابتدؤوا قتالهم، قال الصديق‏:‏ والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه‏.‏ وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب‏.‏ ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب‏؟‏ علي قولين، هما روايتان عن أحمد، كالروايتين عنه في تكفير الخوارج‏.‏ وأما أهل البغي المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين؛ فإن القرآن قد نص علي إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ‏:‏ عمن يلعن ‏[‏معاوية‏]‏ فماذا يجب عليه‏؟‏ وهل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأحاديث، وهي إذا ‏(‏اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون‏)‏‏؟‏ وأيضًا‏:‏ ‏(‏إن عمارًا تقتله الفئة الباغية‏)‏‏.‏ وقتله عسكر معاوية‏؟‏ وهل سبوا أهل البيت‏؟‏ أو قتل الحجاج شريفًا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، من لعن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ونحوهما، ومن هو أفضل من هؤلاء؛ كأبي موسي الأشعري، وأبي هريرة، ونحوهما، أو من هو أفضل من هؤلاء؛ كطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أو أبي بكر الصديق، وعمر، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين‏.‏ وتنازع العلماء‏:‏ هل يعاقب بالقتل‏؟‏ أو ما دون القتل‏؟‏ كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل / أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏)‏‏.‏ واللعنة أعظم من السب، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لعن المؤمن كقتله‏)‏، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله‏.‏

وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيار المؤمنين، كما ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏، وكل من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به فله من الصحبة بقدر ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يغزو جيش، فيقول‏:‏ هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون نعم‏.‏ فيفتح لهم، ثم يغزو جيش؛ فيقول‏:‏ هل فيكم من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون، نعم‏.‏ فيفتح لهم‏)‏‏.‏ وذكر الطبقة الثالثة، فعلق الحكم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما علقه بصحبته‏.‏

ولما كان لفظ ‏[‏الصحبة‏]‏ فيه عموم وخصوص، كان من اختص من الصحابة بما يتميز به عن غيره يوصف بتلك الصحبة، دون من لم يشركه فيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد المتقدم لخالد بن الوليد لما اختصم هو وعبد الرحمن‏:‏ ‏(‏يا خالد، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏)‏، فإن عبد الرحمن بن عوف هو وأمثاله من السابقين الأولين من الذين أنفقوا قبل الفتح ـ فتح الحديبية ـ وخالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية وأنفقوا وقاتلوا دون أولئك، قال تعالي‏:‏ ‏{‏ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏، والمراد ‏[‏بالفتح‏]‏ فتح الحديبية لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة، وكان الذين بايعوه أكثر من ألف وأربعمائة، وهم الذين فتحوا خيبر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة‏)‏‏.‏

و ‏[‏سورة الفتح‏]‏ الذي فيها ذلك أنزلها الله قبل أن تفتح مكة، بل قبل أن يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد بايع أصحابه تحت الشجرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وصالح المشركين صلح الحديبية المشهور، وبذلك الصلح حصل من الفتح ما لا يعلمه إلا الله، مع أنه قد كان كرهه خلق من المسلمين، ولم يعلموا ما فيه من حسن العاقبة حتي قال سهل بن حنيف‏:‏ أيها الناس اتهموا الرأي، فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت‏.‏ رواه البخاري وغيره، فلما كان من العام القابل اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل هو ومن اعتمر معه مكة معتمرين، وأهل مكة يومئذ مع المشركين، ولما كان في العام الثامن فتح مكة في شهر رمضان، وقد أنزل الله في سورة الفتح‏:‏ ‏{‏ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏، فوعدهم في سورة الفتح أن يدخلوا مكة آمنين، وأنجز موعده من / العام الثاني، وأنزل في ذلك‏:‏ ‏{‏ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏، وذلك كله قبل فتح مكة‏.‏ فمن توهم أن ‏[‏سورة الفتح‏]‏ نزلت بعد فتح مكة فقد غلط غلطًا بينًا‏.‏

والمقصود أن أولئك الذين صحبوه قبل الفتح اختصوا من الصحبة بما استحقوا به التفضيل علي من بعدهم، حتي قال لخالد‏:‏ ‏(‏لا تسبوا أصحابي‏)‏، فإنهم صحبوه قبل أن يصحبه خالد وأمثاله‏.‏

ولما كان لأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ من مزية الصحبة ما تميز به على جميع